فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

سورة الانشقاق:
{إِذَا السماء انشقت} أي سمعت أمر ربها بالانشقاق وطاعته {وَحُقَّتْ} أي وحق لها أن تطيع ربّها وحق الله ذلك عليه.
{وَإِذَا الأرض مُدَّتْ} مدّ الأديم العكاظي وزيد في سعتها.
{وَأَلْقَتْ} أخرجت {مَا فِيهَا} من الموتى والكنوز {وَتَخَلَّتْ} وخلت فليس في باطنها شيء.
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}، واختلفوا في جواب قوله: {إِذَا السماء انشقت} فقيل جوابه متروك؛ لأنّ المعنى مفهوم، وقيل جوابه {يا أيها الإنسان إِنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} ومجازه: إذا السماء انشقت لقي كل كادِحٌ ما عمله، قال المبّرد: فيه تقديم وتأخير تقديره {يا أيها الإنسان إِنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} {إِذَا السماء انشقت}، وقيل: جوابه {وَأَذِنَتْ}، وحينئذ يكون الواو زائدة.
ومعنى قوله: {كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً} أي عامل واصل به إلى ربّك عملا فملاقيه ومجازى به خيراً كان أو شراً، وقال القتيبي ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك، والكدح: السعي والجهد في الأمر حتى يكدح ذلك فيه، أي يؤثّر ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سأل وله ما يغنيه جاءت مسلته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً أو كدوحاً في وجه» أي أثر الخدش، قال ابن مقبل:
وما الدهر إلاّ تارتان فمنهما ** أموت وأُخرى أبتغي العيش أكدح

وأخبرني الحسين قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا إسحاق بن بشر عن سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النادم ينتظر الرحمة والمعجب ينتظر المقت وكل عامل سيقدم على ما سلف».
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابهُ} ديوان أعماله {بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً}. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مندة قال: حدّثنا محمد بن غالب قال: حدّثني سعيد بن سليمان قال: حدّثنا مبارك بن فضالة عن أيوب عن أبي مليكة عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يحاسب يعذّب» قالوا: يا رسول الله أليس قد قال الله سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} قال: «ذاكم العرض ولكن من نوقش الحساب عذّب».
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} فتغُلّ يده اليمنى إلى عنقه وتجعل يده الشمال وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره، وقال مجاهد: يخلع يده وراء ظهره.
{فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً} ينادى بالويل والهلاك {ويصلى سَعِيراً} قرأ أبو جعفر وأيوب وكوفي غير الكسائي بفتح الياء والتخفيف واختاره أبو عبيد لقوله سبحانه: {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} [الصافات: 163]، وقوله: {يَصْلَى النار الكبرى} [الأعلى: 12] وقرأ الباقون بضم الياء وتشديد اللام، واختاره أبو حاتم لقوله سبحانه: {ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} [الحاقة: 31] {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 94] {إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً} سمعت السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم المصري يقول: قال ابن عطاء لنفسه متابعاً ساعياً.
{إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} يرجع إلينا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك من الحور بعد الكور» وقال ابن عباس: كنت لا أدري ما معنى يحور حتى سمعت إعرابية تدعوا بنيةً لها فتقول: حوري حوري أي أرجعي، وقال الشاعر:
وما المرء إلاّ كالشهاب وضوءه ** يحور رماداً بعد إذ هو ساطع

ثم قال: {بلى}، أي ليس كما ظن بلى يحور إلينا ويبعث.
{إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً * فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق} قال مجاهد وغيره: هو النهار كلّه، عكرمة: ما بقى من النهار، وقال ابن عباس وأكثر الناس: هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس وبغيبوبته يتعلّق أول وقت العشاء الآخرة وإليه ذهب من الصحابة ابن مسعود وابن الزبير وعمر وابنه وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأنس بن مالك وأبو قتادة الأنصاري وأبو هريرة وجابر بن عبد الله ومن التابعين سعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير وطاووس وعبد الله بن دينار ومكحول، ومن الفقهاء مالك والأوزاعي والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وابن عبيد وأحمد وإسحاق، وقال قوم: هو البياض، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة، والاختيار القول الأول؛ لأجماع العبادلة عليه، ولأن الشواهد في كلام العرب وأشعارهم تشهد له، قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الثور أحمر كأنه الشقق، وقال الشاعر:
أحمر اللون كمحمر الشقق

وقال آخر:
قم ياغلام أعني غير محتشم ** على الزمان بكأس حشوها شفق

ويقال للحفرة الشفق، وزعم الحكماء أنَّ البياض لا يغيب أصلا قال الخليل: صعدت منارة إسكندرية فرمقت البياض فرأيته يتردّد من أفق إلى أفق ولم أره يغيب، والله أعلم بالصواب.
{والليل وَمَا وسق} أي جمع وجمل، ويقال: وسقته أسقه وسقاً، ومنه قيل للطعام المجتمع الكبير: وسق وهو ستون صاعاً، وطعام موسق أي مجموع في غرارة ووعاء، وقال مجاهد: برواية ابن أبي بحج: وما آوي فيه من دابة، منصور عنه: ومالفّ وأظلم عليه ودخل فيه، عكرمة: وما جمع فيه منّ دوابة وعقاربة وحيّاته وظلمته، ضحاك ومقاتل: وما ساق من ظلمه فإذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه، وقال الأستاذ أبو القاسم بن حبيب: شيبه أن يكون على هذا القول من المقلوب، لأن أصل ساق يسوق، عثمان: حمل من الظلمة، أبو حيان: أقبل من ظلمة أو كوكب، سعيد بن جبير: وما عمل فيه، وروى ابن أبي مليكة وابن جبير عن ابن عباس: وما جمع قال: ألم تسمع قول الشاعر:
أن لنا قلائصاً حقائقاً ** مستوسقات لو يجدن سائقاً

{والقمر إِذَا اتَّسَقَ} أي أجتمع واستوى وتمّ نوره، قتادة: إذا أستدار وقيل: سار، مرّة الهمداني: أرتفع وهو في الأيام البيض، ويقال: أتسق الشيء إذا تتابع، واستوسق من الأبل إذا أجتمعت وأنضمت وهو أفتعل من الوسق.
{لتركبن} قرأ أهل مكة والكوفة إلاّ عاصماً بفتح التاء، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود وأصحابه وابن عباس وأبي العالية، وقالوا: يعني لتركبن يامحمد سماء بعد سماء ودرجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة، وقيل: أراد به السماء تتغير لون بعد لون فتصير تارة كالدهان وتارة كالمهل وتشقق بالغمام مرّة ويطوي أخرى.
وقرأ الآخرون بضمّة وأختاره أبو عبيد قال: لأنَّ المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وسلم إنَّما ذكر قبل الآية من يؤتى منهم كتابة بيمينه وشماله ثم قال: بعدّها فمالهم لا يؤمنون وذكر ركوبهم طبقا بعد طبق بينهما.
واختلف المفسرون في معنى الآية فقال أكثرهم: حالاً بعد حال وأمراً بعد أمر في مواقف القيامة عن محمد بن مروان عن الكلبي، حيان عنه: مرّة يعرفون ومرة يجهلون، قاتل: يعني الموت ثم الحياة ثم الموت ثم الحياة، عطا: مرّة فقرا ومرة غنى، عمرو بن دينار عن ابن عباس: الشدائد والأهوال الموت ثم البعث ثم العرض، والعرب تقول لمن وقع في أمر شديد: وقع في بنات طبق وفي أخرى بنات طبق، أبو عبيدة: لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالكم، عكرمة: حالا بعد حال، رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ، قالت الحكماء: يشتمل الأنسان من كونه نطفة إلى أن يهرم ويموت على سبعة وثلاثين حالا من سبعة وثلاثين اسماً: نطفة ثم علقة ثم مضعة ثم خلقاً آخر ثم جنيناً ثم وليداً ثم رضيعاً ثم فطيماً ثم يافعاً ثم ناشئاً ثم مترعرعاً ثم حزوراً ثم مراهقاً ثم محتلماً ثم بالغاً ثم أمرد ثم طارداً ثم طارا ثم باقلا ثم مسيطراً ثم مطرخما ثم مختطاً ثم صملا ثم ملتحياً ثم مستوياً ثم مصعداً ثم مجتمعاً والشاب يجمع ذلك كلّه ثم ملهوزاً ثم كهلاً ثم أشمط ثم شيخاً ثم أشيب ثم حوقلاً ثم صفتاناً ثم هرماً ثم ميتاً، فهذا معنى قوله سبحانه وتعالى: {لتركبن}.
{طبقا عَن طبق} والطبق في اللغة الحال، قال الأقرع بن حابس:
إني أمرؤ قد حلبت الدهر أشطره ** وساقني طبق منه إلى طبق

فلست أصبو إلى خل يفارقني ** ولا تقبض أحشائي من الفرق

وأنشدني أبو القاسم عبد الله بن محمد البابي قال: أنشدني أبو سعيد عثمان بن جعفر بن نصره الموصلي قال: أنشدنا أبو يعلي أحمد بن علي المثنى:
الصبر أجمل والدنيا مفجعة ** من ذا الذي لم يذق من عيشه رنقاً

إذا صفا لك من مسرورها طبق ** أهدى لك الدهر من مكروهها طبقا

وقال مكحول في هذه الآية: في كل عشرين عاماً يحدثون أمراً لم يكونوا عليه، وهذا أدلّ دليل على حدث العالم وأثبات الصانع، قالت الحكماء: من كان اليوم على حالة وغداً أخرى فليعلم أن يدبيره إلى سواه، وقيل لأبي بكر الوراق: ما الدليل على أنَّ لهذا العالم صانع فقال: تحويل الحالات وعجز القوة وضعف الأركان وقهر المنّة وفسخ العزيمة.
سمعت أبا القاسم المفّر يقول: سمعت أبا الفضل أحمد بن محمد بن حمدون النسّوي يقول: سمعت أبا عبد الرحمن الأرزياني يقول: دخل أبو الفم علي بن محمد بن زيد العلوي بطبرستان عائداً فأنشأ يقول:
إني أعتللت ولا كانت بك العلل ** وهكذا الدَّهر فيه الصاب والعسل

إنَّ الذي لا تحل الحادثات به ** ولا يغير فيه الله لا الرجل

{فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قرئ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ} لا يخضعون ولا يستكينون له، وقال الكلبي ومقاتل: لا يصلّون.
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف بقراءتي عليه قال: أخبرنا مكّي قراءةً عليه سنة تسع عشر وثُلثمائة قال: حدّثني محمد بن يحيى قال: وفيها قرأ علي بن عبد الله بن نافع المدّني وحدّثني مطرف بن عبد الله عن مالك بن أنس عن عبد الله بن زيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن أحمد أنَّ أبا هريرة قرأ {إِذَا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها.
وأخبرنا أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن نوح قرأه عليه سنة ست وثمانين وثلثمائة قال: أخبرنا أبو العباس السراج قال: حدثنا قتيبة عن الليث عن بكر عن نعيم بن عبد الله بن محمد قال: صليت مع أبي هريرة فوق هذا المسجد فقرأ {إِذَا السماء انشقت} فسجد فيها وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها.
{بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ * والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} قال مجاهد: يكتمون، قتادة: يوعون في صدورهم، ابن زيد يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة.
{فَبَشِّرْهُمْ} أخبرهم {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}. غير منقوص ولا مقطوع. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة الانشقاق: مكية.
وآياتها 25، نزلت بعد الانفطار.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[الانشقاق: الآيات 1- 5]

{إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)}
حذف جواب {إذا} ليذهب المقدّر كل مذهب. أو اكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار.
وقيل: جوابها ما دلّ عليه {فَمُلاقِيهِ} أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه. ومعناه: إذا انشقت بالغمام، كقوله تعالى: {وَيوم تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ} وعن علي رضي اللّه عنه: تنشق من المجرّة. أذن له: استمع له. ومنه قوله عليه السلام: «ما أذن اللّه لشيء كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن». وقول جحاف بن حكيم:
أَذِنَتْ لكم لمّا سمعت هريركم

والمعنى: أنها فعلت في انقيادها للّه حين أراد انشقاقها فعل المطواع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع، كقوله: {أَتَيْنا طائِعِينَ}. {وَحُقَّتْ} من قولك هو محقوق بكذا وحقيق به، يعنى: وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع. ومعناه الإيذان بأنّ القادر الذات يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك {مُدَّتْ} من مدّ الشيء فامتدّ: وهو أن تزال جبالها وآكامها وكل أمت فيها، حتى تمتدّ وتنبسط ويستوي ظهرها، كما قال تعالى: {قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً} وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما: مُدَّتْ مدّ الأديم العكاظي، لأن الأديم إذا مدّ زال كل انثناء فيه وأمت واستوى أو من مدّه بمعنى أمدّه، أى: زيدت سعة وبسطة {وَأَلْقَتْ} ما فِيها ورمت بما في جوفها مما دفن فيها من الموتى والكنوز {وَتَخَلَّتْ} وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها، كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو، كما يقال: تكرم الكريم، وترحم الرحيم: إذا بلغا جهدهما في الكرم والرحمة، وتكلفا فوق ما في طبعهما {وَأَذِنَتْ لِرَبِّها} في إلقاء ما في بطنها وتخليها.

.[الانشقاق: الآيات 6- 15]

{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)}.
الكدح: جهد النفس في العمل والكدّ فيه حتى يؤثر فيها، من كدح جلده: إذا خدشه.
ومعنى {كادِحٌ إِلى رَبِّكَ} جاهد إلى لقاء ربك، وهو الموت وما بعده من الحال الممثلة باللقاء {فَمُلاقِيهِ} فملاق له لا مجالة لا مفرّ لك منه، وقيل: الضمير في ملاقيه للكدح {يَسِيراً} سهلا هينا لا يناقش فيه ولا يعترض بما يسوءه ويشق عليه، كما يناقش أصحاب الشمال.
وعن عائشة رضي اللّه عنها: هو أن يعرّف ذنوبه، ثم يتجاوز عنه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يحاسب يعذب» فقيل يا رسول اللّه: فسوف يحاسب حسابا يسيرا. قال: «ذلكم العرض، من نوقش في الحساب عذب» {إِلى أَهْلِهِ} إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين. أو إلى فريق المؤمنين. أو إلى أهله في الجنة من الحور العين {وَراءَ ظَهْرِهِ} قيل: تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره. وقيل تخلع يده اليسرى من وراء ظهره.
{يَدْعُوا ثُبُوراً} يقول: يا ثبوراه. والثبور: الهلاك. وقرئ: {ويصلى سعيرا}، كقوله: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} ويصلى: بضم الياء والتخفيف، كقوله: {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ}. {فِي أَهْلِهِ} فيما بين ظهرانيهم: أو معهم، على أنهم كانوا جميعا مسرورين، يعنى أنه كان في الدنيا مترفا بطرا مستبشرا كعادة الفجار الذين لا يهمهم أمر الآخرة ولا يفكرون في العواقب، ولم يكن كئيبا حزينا متفكرا كعادة الصلحاء والمتقين وحكاية اللّه عنهم {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ}. {ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} لن يرجع إلى اللّه تعالى تكذيبا بالمعاد. يقال: لا يحور ولا يحول، أى: لا يرجع ولا يتغير.
قال لبيد:
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

وعن ابن عباس: ما كنت أدرى ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها: حورى، أى: ارجعي {بَلى} إيجاب لما بعد النفي في {لَنْ يَحُورَ} أى: بلى ليحورنّ {إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً} وبأعماله لا ينساها ولا تخفى عليه، فلابد أن يرجعه ويجازيه عليها.
وقيل: نزلت الآيتان في أبى سلمة بن عبد الأشدّ وأخيه الأسود بن عبد الأشد.